كيف يفعل من أصابه همّ أو غمّ ؟ ـ لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
عبد القهر و عبد الشكر :
أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيم لابن القيم رحمه الله تعالى .
هذه الفائدة صيغت على شكل سؤال كيف يفعل من أصابه هم أو غم ؟
(( ما أصاب عبداً هم ولا حزن, فقال اللهم إني عبدك ، ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي , إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحا ، قالوا يا رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال : بلى, ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن)) .
[رواه أحمد وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ]
أيها الأخوة ، (( اللهم إني عبدك ، وابن عبدك)) . هناك عبد القهر ، وهناك عبد الشكر ، وشتان بين العبدين ، عبد القهر بحكم أنه في قبضة الله ، حياته بيد الله ، رزقه بيد الله، مرضه بيد الله ، صحته بيد الله ، زواجه بيد الله ، استمرار حياته بيد الله ، كن فيكون ، زل فيزول ، فكل إنسان مسلم أو غير مسلم ، مؤمن أو غير مؤمن ، مستقيم أو غير مستقيم ، موحد أو غير موحد أو ملحد في قبضة الله ، لأن كل إنسان في قبضة الله بأي ثانية ينهي حياته ، يقطع رزقه ، يصيبه بأمراض وبيلة ، إذاً هو في قبضة الله هذه عبودية ولكنها عبودية القهر ، قال تعالى :
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ .
( سورة فصلت )
لكن الإنسان إذا عرف الله اختياراً ، بمبادرة منه محبة ، شوقاً ، واستقام على أمره ، وأقبل عليه ، وتقرب إليه بالأعمال الصالحة ، هذا عبد آخر ، هذا عبد الشكر :
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ .
( سورة الحجر الآية : 42 )
عبد الشكر يجمع على عباد ، بينما عبد القهر يجمع على عبيد :
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ .
( سورة فصلت )
أما :
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ .
( سورة الحجر الآية : 42 )
من علامات أنك عبد لله أن تلتزم طاعته و تخضع له و تنيب إليه و تمتثل أمره :
أيها الأخوة ، النقطة الثانية :
((اللهم إني عبدك ، وابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك)) .
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾ .
( سورة هود الآية : 123 )
أنت في قبضة الله ، ((ناصيتي بيدك)) ،ضربات القلب بيدك ، الشرايين بيدك ، انسداد الشرايين بيدك ، سيولة الدم بيدك ، الخثرة بالدماغ بيدك ، ((ناصيتي بيدك)) .رزقيبيدك ، صحتي بيدك ، زوجتي بيدك ، أولادي بيدك ، من حولي بيدك ، من فوقي بيدك ، من تحتي بيدك ، الأقوياء بيدك ، الطغاة بيدك ، المؤمنون بيدك ، ((ناصيتي بيدك)) . هذا هو التوحيد ، أن ترى أن كل أمرك عائد إلى الله ، التوحيد علاقتك مع جهة واحدة ، أروع ما في هذا الدين أن علاقة المؤمن مع جهة واحدة هي الله ، يرضي الله فإذا أرضى الله أرضى الله عنه كل الخلائق ، وإذا أحب الله ألقى محبته في قلوب الخلائق ، وإذا هاب من الله ألقى هيبته في قلوب الخلائق ، وإذا اتصل بالله جعل الله علاقته بمن حوله من أعلى ما يكون ، هذا التوحيد ، الدين توحيد .
فلذلك من علامات أنك عبد لله أنك تلتزم طاعته ، وتلتزم الخضوع له ، والإنابة إليه ، وامتثال أمره ، ودوام الافتقار إليه ، واللجوء إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والعياذ به وألا يتعلق قلبك بغيره ، بل تحبه ، وتخاف منه ، وترجوه ، وتعظمه ، هذا معنى العبودية لله عز وجل هذا معنى عبد الشكر .
من معاني العبودية لله :
1 ـ أن الأمر كله لله و ليس لك منه شيء :
أيضاً أنا يا رب عبدك من جميع الوجوه ، والإنسان المؤمن عبد لله صغيراً كان أم كبيراً ، حياً أو ميتاً ، مطيعاً أو عاصياً ، معافى أو مبتلىً ، عبد لله بقلبه ، بجوارحه ، بلسانه، من معاني العبودية لله ليس لك من شيء ، الأمر كله لله :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
( سورة الأنعام )
لو تعمقنا كثيراً في مفهوم العبودية النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجة وصل إليها بشر عند سدرة المنتهى ، قال تعالى :
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ .
( سورة النجم )
العلاقة عجيبة كلما خضعت لله رفعك الله ، كلما تذللت أمامه في مناجاتك أعلى قدرك ، ورفع ذكرك ، وثبط عدوك ، ووفقك ونصرك .
2 ـ أن كل ما تملك لله :
من معاني العبودية أن كل ما تملك لله ، مرة إنسان سأل عالماً قال له : كم الزكاة سيدي ؟ قال له : عندكم أم عندنا ؟ قال له : عجيب ! ما عندنا وما عندكم ؟ قال له : عندكم ربع العشر ، أما عندنا العبد وماله لسيده . وهذا معنى:
﴿ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
( سورة الأنعام )
المؤمنون الصادقون السابقون أوقاتهم لله ، قدراتهم لله ، خصائصهم لله ، طلاقة ألسنتهم لله ، حكمتهم لله ، رحمتهم من أجل إكرام عباد الله .
3 ـ أن كل ما أنت فيه من إنعام الله عليه :
من معاني العبودية لله أنت الذي مننت عليّ بكل ما أنا فيه ، كلك حسنة من حسنات الله ، جعلك من أب أو أم من نعمة الله الكبرى ، أعطاك سمعاً أو بصراً من نعمة الله الكبرى ، أعطاك عقلاً ، أكرمك بزوجة تسرك إذ نظرت إليها ، تحفظك إذا غبت عنها ، تطيعك إذ أمرتها ، أعطاك أولاداً يملؤون البيت فرحة ، أي أنت مننت علي بكل ما أنا فيه ، هذا معنى العبودية ، هذا ما يقول عنه علماء القلوب الفناء ، أي فني في محبة الله ، كل ما أنا فيه يا رب من إنعامك .
4 ـ عدم التصرف بشي إلا بأمر الله تعالى :
شيء آخر من معاني العبودية أنني لا أتصرف يا رب فيما خولتني من مال ونفس إلا بأمرك ، والعبد الصادق ، الأمين ، المخلص ، لا يتصرف إلا بإذن سيده ، وإني لا أملك يا رب لنفسي نفعاً يا رب ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، هذا من معاني العبودية لله عز وجل .
(( اللهم إني عبدك ، وابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك)) . من منا يملك حواسه ؟ بأي لحظة يفقد أحد أعضاءه ، بأي لحظة قد يفقد عقله ، الأب المحترم يسعى من حوله أن يضعوه في مستشفى الأمراض العقلية ، عقلك بيده ، (( ناصيتي بيدك )) . أنت المتصرف كيفما تشاء ، أما أنا لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً .
التوكل على الله أساس الدين :
أيها الأخوة ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)) .
[ مسلم عن عائشة]
أي هذا الذي أمامك قوي هو بيد الله فإذا كنت مع الله ألقى هيبة عليك ، هذا الذي يريد أن ينال منك بيد الله لا يستطيع أن يتحرك إلا بإذن الله عز وجل ، فلذلك حتى الأقوياء الطغاة موتهم وحياتهم بيد الله عز وجل ، هذا الذي قاله سيدنا هود :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .
( سورة هود )
الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها وأنه لن يقع شيء في الكون إلا إذا سمح الله له :
أيها الأخوة الكرام ، الدين توحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، الدين ألا ترى مع الله أحداً ، الدين أن ترى أن يد الله تعمل وحدها ، الدين أن ترى أنه لن يقع شيء في الكون إلا إذا سمح الله له أن يقع ، كل شيء وقع أراده الله ، بمعنى سمح به ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، متى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد بيد الله وحده يصرفها كيف يشاء عندئذ لن يخاف أحداً إلا الله ، الموحد قوي الشخصية ، لا يتضعضع ، لا يتذلل ، لا ينبطح ، لا ينافق ، لا تضعف شخصيته ، لأنه مع الله عز وجل .
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
متى شهد العبد أن ناصيته بيد الله وأن نواصي العباد بيد الله أيضاً يصرفها كيف يشاء لم يخفهم ، ولم يعلق أمله عليهم ، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين ، المتصرف فيهم هو الله ، والله مدبر شؤونهم ، فمن شهد هذا المشهد صار فقره إلى ربه لازماً له ، كل من في الكون بيد الله ، أنت إذاً افتقر إلى الله ، لذلك الصحابة الكرام في بدر فوضوا أمرهم إلى الله ، وافتقروا إليه ، فانتصروا ، قالوا الله ، فالله تولاهم ، هم هم ومعهم سيد الخلق في حنين قالوا : نحن كثرة لن نغلب من قلة فتخلى الله عنهم :
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26) ﴾ .
( سورة التوبة )
ارغب فيما عند الله يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس :
أيها الأخوة ، من شهد هذه المعاني لم يفتقر إلى الناس ، ولم يعلق أمله عليهم ، ولم يرجو ما عندهم ، لذلك ارغب فيما عند الله يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب
* * *
وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ، ارجُ ما عند الله يحبك الله ، لذلك سيدنا هود قال :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ .
( سورة هود )
عظمة الله عز وجل أنه قوي وعلى صراط مستقيم و له الملك و الحمد :
بالمناسبة كلمة على إذا جاءت مع لفظ الجلالة تعني أن الله ألزم ذاته العلية بما جاء في الآية : ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ . أي أن الله جل جلاله ألزم ذاته العلية بأن يكون على صراط مستقيم بالاستقامة :
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ .
( سورة النحل الآية : 9 )
ألزم الله ذاته بهداية الخلق :
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ .
( سورة الأنفال الآية : 23 )
(( ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك)) . أي إذا حكم الله على عبد :
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ ﴾ .
( سورة الرعد الآية : 11 )
(( يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ ذلك لأن عطائي كلام ، كن فيكون ، وأخذي كلام ، يا عبادي ، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]
أيها الأخوة ، ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ . مع أنه قوي أحياناً القوي ليس مستقيماً ، القوي لا يخشى أحداً ، لا يعلق أهمية على أحد لأنه قوي ، لكن عظمة الله عز وجل أنه قوي وعلى صراط مستقيم ، له الملك وله الحمد .
أيها الأخوة ، هو على صراط مستقيم في أقواله ، في أفعاله ، في قضائه ، في قدره ، في أمره ، في نهيه ، في ثوابه ، في عقابه ، خبره صادق ، قضاؤه عدل ، أمره كله حكيم .
أيها الأخوة ، كما قالوا : الشريعة عدل كلها ، مصلحة كلها ، رحمة كلها ، حكمة كلها ، أية قضية خرجت من العدل إلى الجور ، ومن المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى خلافها ، من الرحمة إلى القسوة فليست من الشريعة ، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل .
الحياة الدنيا فيها متاعب وأحزان وهموم والمؤمن إذا أصابه همّ أو حزن عليه بهذا الدعاء :
أيها الأخوة ، ((ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك)) .هذا الحديث الرائع لمن أصابه غم أو هم ، أعيد عليكم نص الحديث :
(( ما أصاب عبداً هم ولا حزن, فقال اللهم إني عبدك ، ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني , وذهاب همّي وغمّي , إلا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحاً)) .
[رواه أحمد وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ]
فلذلك طبيعة الحياة الدنيا فيها متاعب ، فيها أحزان ، فيها هموم ، فالمؤمن إذا أصابه هم أو حزن عليه بهذا الدعاء الذي علمنا النبي عليه الصلاة والسلام إياه .
والحمد لله رب العالمين