طوبى للغرباء
فضيلة الشَّيخ عثمان بن محمَّد الخميس حفظه الله
الحمدُ لله وليّ الصَّالحين ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ ؛ نبيِّنا وإمامِنا وحبيبِنا وقُرَّةِ عينِنا وسيِّدنا محمَّد بنِ عبدِ الله وعلى آلهِ الطَّيِّبينَ ، أمَّا بعدُ :
فأشكرُ ابتداءً الإخوةَ القائمينَ على نشاطِ هذا المسجدِ المباركِ على جهودِهمُ المتميِّزةِ حقيقةً ، وإنْ كنتُ أزورُ هذا المسجدَ بين فترةٍ وأخرى إلا أنَّ هذه الجهودَ المتميِّزةَ ظاهرةٌ ، نسألُ الله تباركَ وتعالى أنْ يخلصَ النِّيَّاتِ ، وأنْ يُثيبَ سبحانه وتعالى كلّاً على نِيَّتهِ وأحسن مِنْ نِيَّتهِ ، وأنْ يوفِّقَ سبحانه وتعالى مَنْ لم يشاركْ في هذا الجهدِ على أنْ يشاركَ فيه ويعين إخوانَه في الله تباركَ وتعالى .
إنَّ الله تباركَ و تعالى قد أكرَمنا سبحانه وتعالى بأنْ خلقَنا وجعلَنا مِنْ عبيدهِ ، وذلك أنَّ الله قالَ في كتابهِ العزيزِ : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) " سورة الذَّاريات ، فالله إنما خلقَنا إذاً وأوجدَنا على هذه البسيطةِ لنحقِّقَ عبادتَه سبحانه وتعالى .
وقد أرسلَ الله تباركَ وتعالى رُسُلاً وأنزلَ معهم كُتُباً ومعهم شرائع ليُبيِّنوا للنَّاسِ كيف يعبدونَ الله تباركَ وتعالى ، وكانتِ الرُّسُلُ تَتْرَى ، كلَّما ماتَ رسولٌ جاءَ رسولٌ وهكذا ، حتى ختمَ الله تباركَ وتعالى تلك الثُّلَّة الكريمةَ مِنَ الرُّسُلِ بِسيِّدهم محمَّد صلَّى الله عليه و سلَّم .
فكانَ صلواتُ الله وسلامُه عليه خاتمَ النَّبيِّينَ ، فخُتِمَتِ النُّبوَّةُ به صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأيضاً طالما أنه ختمَ الله النُّبوَّةَ به فختمَ الشَّرائعَ كذلك بشريعتهِ ، فأكرمَ الله تباركَ وتعالى هذا النَّبيَّ وأكرمَ أمَّته معه بأنْ جعلَ لهم أحسنَ وأكملَ شرائعهِ سبحانه وتعالى ، وأيضاً أنزلَ لهم أحسنَ كُتُبهِ وهو القرآن الكريم ، ثمَّ تركَ الله تباركَ وتعالى حِفْظَ هذا الدِّينِ على هذه الأمَّةِ .
وذلك أنَّ الله تباركَ وتعالى كما تعلمونَ أرسلَ رُسُلاً كُثُر ، وأنزلَ معهم كُتُباً ، وأمرَ الله تباركَ وتعالى النَّاسَ في تلك الأزمانِ أنْ يحفظوا تلك الكتبَ ، وأنْ يتَّبعوا أولئك الرُّسُلَ ، ولكنَّ الذي وقعَ أنَّ منهم مَنِ اتَّبعَ الرُّسُلَ وأكثرهم فاسقون ، عَصَوا الرُّسُلَ وعاندوهم بل وتعدّوا على أمرِ الله تباركَ وتعالى فمسّوا الكتبَ وحرَّفوها ، كما أخبرَ الله تباركَ وتعالى عنِ اليهودِ والنَّصارى ، قالَ سبحانه وتعالى : " إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ .... (44) "سورة المائدة ،بما استُحفِظوا مِنْ كتابِ الله تباركَ وتعالى ، فأمرَهمُ الله تباركَ وتعالى أنْ يحفظوا هذا الكتابَ ، أنْ يحفظوا التَّوراةَ ، أنْ يحفظوا الإنجيلَ ، أنْ يحفظوا الكتبَ التي أنزلها الله تباركَ وتعالى في ذلك الزَّمانِ ، ولكنَّ الذي وقعَ ماذا ؟؟
الذي وقعَ أنَّ الله تباركَ وتعالى قد أخبرَ عنهم : " ... يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ .... (41) " سورة المائدة
" يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (46) " سورة النِّساء ، فحرَّفوا الكتبَ ، ومنهم مَنْ قتلَ الرُّسُلَ ودمَّر الشَّرائعَ ، فلمَّا أرادَ الله تباركَ وتعالى أنْ يختمَ هذه المسيرةَ الطَّيِّبةَ مسيرةَ المرسلينَ جعلَ سيِّدَنا محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم خاتمهم ، وجعلَ شريعتَه خاتمةً ، وجعلَ كتابَه محفوظاً ، فتعهَّد الله تباركَ وتعالى بحِفْظِهِ فقالَ سبحانه وتعالى : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 9 ) " سورة الحجر ، و قالَ عنْ كتابهِ العظيمِ :" لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) " سورة فصلت ،
تعهَّد الله إذاً أنَّ هذا الكتابَ لا يأتيهِ الباطلُ لا مِنْ بين يديهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ ، وأنه محفوظٌ بحِفْظِ الله تباركَ وتعالى له .
واستمرَّ هذا الأمرُ إلى يومِنا هذا إلى أنْ تقومَ السَّاعةُ ، والله تباركَ وتعالى حافظٌ هذا الدِّينَ جلَّ وعلا ، وبذلك يطمئنُّ المسلمُ ويرتاحُ أنَّ هذا القرآنَ لنْ يُمَسَّ أبداً ، وهذا الدِّين لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يُبطلَه ، بل وتعهَّد الله تباركَ وتعالى بإظهارِه فقالَ سبحانه وتعالى : " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونََ ... (33) " سورة التوبة ، أبداً على الدِّينِ كلِّه سيُظهرُه الله سبحانه وتعالى ، فَنَمْ قريرَ العينِ مِنْ هذه النَّاحيةِ ، ولكنَّ إظهارَ الله تباركَ وتعالى لهذا الدِّينِ جعلَ له أسباباً وإلا يستطيعُ سبحانه وتعالى - وليسَ ذلك بعزيزٍ على الله تباركَ وتعالى ، وليسَ الله عنه بعاجز ٍسبحانه وتعالى - أنْ يجعلَ النَّاسَ كلَّهم مسلمين ، " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ ... (118) " سورة هود ، أ ليسَ الله قد خلقَ الملائكةَ وجعلَهُم كلَّهم مطيعينَ له سبحانه وتعالى ، وكلَّهم عابدين ؟؟!!
الذي صنعَ ذلك بالملائكةِ ليسَ بعاجزٍ أنْ يصنعَ مِثْلَ ذلك في البشرِ ، ولكنْ لحكمةٍ أرادَها الله سبحانه وتعالى جعلَ لهذا الأمرِ أسباباً ، مِنْ هذه الأسبابِ :
أنْ هيَّأ أناساً سبحانه وتعالى ، وهؤلاء النَّاس بشَّرهمُ الله سبحانه وتعالى أنهم إذا حفظوا هذا الدِّينَ - وهو محفوظٌ بحفظِ الله تباركَ وتعالى ، ولكنْ إذا كانوا سبباً في ذلك - فإنَّ الله تباركَ وتعالى سيرفعُ قَدْرَهم في الدُّنيا وسيرفعُ قَدْرَهم في الآخرةِ ويكونونَ مقرَّبين مِنَ الله تباركَ وتعالى ، فهنيئاً لك أيها العبدُ المسلمُ إذا كنتَ مِنْ هذه الطَّائفةِ .. إذا كنتَ مِنْ هذه الجماعةِ .. إذا كنتَ مِنْ هذه الفرقةِ التي جعلَها الله تباركَ وتعالى تصلحُ ما يفسدُه النَّاسُ ، و تحيي مِنْ دينِ الله ما أماتَه النَّاسُ .
وبعدَ موتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم استمرَّ أصحابُه بالمسيرةِ التي هيَّأها وبدأها لهم صلواتُ الله وسلامُه عليه ، واستمرُّوا على ذلك حتى جاءَ التَّابعونَ ، واستمرُّوا هكذا حتى بدأ يضعفُ الأمرُ ، ثم يعودُ النَّاسُ إلى الدِّينِ ، ويعيدُ الله لهمُ العِزَّةَ والتَّمكينَ ، ثم يضعفونَ ، ثم يعيدُ الله لهمُ العِزَّةَ والتَّمكينَ ، ثم يضعفونَ ، وهكذا دواليك حتى يرثَ الله الأرضَ ومَنْ عليها .
الآن لنْ يأتيَ رسولٌ ، ولنْ يأتيَ كتابٌ ، ولنْ تأتيَ شريعةٌ ، الرُّسُلُ خُتِمُوا ، والكتابُ تمَّ ، والشَّريعةُ اكتملتْ ، فبقيَ ماذا ؟؟؟
بقيَ أنه يجبُ علينا نحن أنْ نكونَ حفظةً لكتابِ الله .. أنْ نكونَ حفظةً لسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .. أنْ نكونَ حفظةً لهذه الشَّريعةِ ، فإذا كنَّا كذلك كانَ لنا مِنَ الله الأجرُ العظيمُ سبحانه وتعالى .
على مرِّ التَّاريخ نجدُ أنَّ هنالك مَنْ أرادَ أنْ يطعنَ في هذا الدِّينِ مِنْ خلالِ خمسةِ أمورٍ :
*-إمَّا أنْ يكونَ الطَّعنُ في كتابِ الله تباركَ وتعالى ...
*-وإمَّا أنْ يكونَ الطَّعنُ في سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ..
*-وإمَّا أنْ يكونَ الطَّعنُ في رفقاءِ محمَّد ( أصحاب محمَّد )صلَّى الله عليه وسلَّم ...
*-وإمَّا أنْ يكونَ الطَّعنُ في الشَّريعةِ ....
*-وإمَّا أنْ يكونَ الطَّعنُ في المتمسِّكينَ بهذا الدِّينِ .. في الملتزمينَ بالدِّينِ ....
مَنْ نظرَ إلى أحداثِ التَّاريخ ِيجدُ أنْ طعونَ الطَّاعنينَ تتوجَّه إلى هذه الأمورِ الخمسةِ ، وقد تتوجَّه إلى غيرِها ولكن التَّركيز على هذه الخمسةِ :
*- أوَّلها كتاب الله تباركَ وتعالى ، عَلِمُوا عِلْمَ اليقين أنَّ الله تباركَ وتعالى قالَ في كتابهِ العزيزِ :" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) " سورة الحجر ، فلا سبيلَ إذاً إلى معارضةِ كتابِ الله تباركَ وتعالى أو محاولةِ تغييرهِ أو تبديلهِ .
ذَكَرَ بعضُ أهلِ العِلْمِ أنَّ بعضَ النَّصارى في بعضِ الأزمانِ حاولَ أنْ يطعنَ في كتابِ الله تباركَ وتعالى فقالَ : إنَّ أعظمَ سورةٍ في كتابِ الله تباركَ وتعالى وهي الفاتحة ليستْ في منتهى البلاغةِ ، بل هناك مِنَ الكلامِ ما هو أبلغُ ، وهناك أيضاً تطويلٌ في هذه السُّورةِ .
فحاولَ أنْ يطعنَ في هذه السُّورةِ مِنْ جهتينِ : مِنْ جهةِ أنها فقدتِ البلاغةَ وهناك مِنَ الكلامِ ما هو أبلغُ ، ومِنْ ناحيةٍ أخرى أنها فيها إطالةٌ وأنها كانَ ينبغي أنْ تختصرَ بأقلَّ مِنْ هذا كما جاءَ في كلامِ العربِ ، وما عرفَ عنِ العربِ أنهم يقولونَ : خيرُ الكلامِ ما قلَّ و دلَّ .
فجاءَ بعضُ النَّصارى فقالَ :لو قيلَ بدلَ ذلك - يعني بدلَ سورةِ الفاتحةِ - لو قيلَ
الحمدُ للرَّحمنِ الملكِ الدَّيَّان * به الاستعانة وعليه التَّكلان * اهدنا سِرَاطَ الإيمان ) فيرى أنَّ هذه الكلماتِ التي اختارَها أفضل مِنَ الفاتحةِ ، ويقولُ :هذه أفضلُ مِنَ الفاتحةِ ومختصرةٌ أكثر .
لا شكَّ كما تسمعونَ الآن ، أوَّلاً حذفَ كلماتٍ مِنْ كتابِ الله تباركَ وتعالى مقامُ الفاتحةِ عليها وهي كلمةُ " الله " سبحانه وتعالى " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) " سورة الفاتحة ، هذا الاسمُ العظيمُ ، بل ذهبَ كثيرٌ مِنَ العلماءِ إنه اسمُ الله الأعظم ، حذفَه مِنْ هذه الآيةِ ، ثم كذلك هو ما أتى بكلماتٍ جديدةٍ وإنما أتى بكلماتِ الفاتحةِ ولكنْ حرَّف فيها وحاولَ أنْ يبدِّلَ ، وكلامُه ضعيفٌ جدّاً مِنْ حيثُ ( به الاستعانة وعليه التكلان ) غير " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) " ، وكذا في قولهِ : ( الحمدُ للرَّحمنِ الملكِ الدَّيان ) فرقٌ بين ( الدَّيان ) و بين " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) " ، فالشَّاهدُ أنهم حاولوا أنْ يطعنوا في كتابِ الله تباركَ وتعالى بمثلِ هذا الهذيانِ !! وإذا أهل البيان الذين كانوا يقولون في ذلك الزَّمان ، يقولون : نحن أهلُ البيان ومَنْ عدانا عجم .
العربُ في ذلك الوقتِ لما نزلَ كتابُ الله تباركَ وتعالى وسمعوه ووَعَوْه عرفوا قطعاً ويقيناً أنهم لا يمكنُهم أبداً أنْ يتحدَّوا هذا الكلامَ ، ولذلك تحدَّاهمُ الله تباركَ وتعالى أنْ يأتوا بقرآنٍ مثلهِ أو بسورةٍ مِنْ مثلهِ أو بعشرِ سُوَرٍ مفترياتٍ ، وعجزوا عن ذلك .
بل إنه وَرَدَ أنَّ بعضَ المشركينَ جاءَ و علَّق قصيدةً على الكعبةِ يسبُّ فيها دينَ الله تباركَ وتعالى ويسبُّ فيها الرَّسولَ والمسلمين ، فغضبَ أحدُ الصَّحابةِ مِنْ ذلك ، وكانَ مِنْ عادتهم أنهم يعلِّقونَ هذا الكلامَ (الذي هو الشِّعر) يعلِّقونه على الكعبةِ وينتظرون مِنَ الغدِ فيجدون الرَّدَّ عليه ، يكتبُ أيضاً ويعلّق في اللَّيلِ ، فيُصبحونَ فيجدونَ الرَّدَّ ، وهكذا .. على الكعبةِ يعلِّقونها ، فعلَّق هذه على الكعبةِ ينتظر مِنَ الغدِ أنْ يردَّ عليه ، فجاءَ أحدُ الصَّحابةِ فوجدَ هذا الكلامَ ، الذي هو الشِّعر الذي فيه سبٌّ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسبٌّ للدِّينِ وسبٌّ لأصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فغضبَ لله تباركَ وتعالى فكتبَ ردّاً عليه ، كتبَ ماذا ؟؟
علَّق بجانبِ شِعْرِهِ سورةَ الرَّحمن ، فلمَّا جاءَ ذلك الرَّجلُ ينتظرُ رَدّاً ، فلمَّا قرأ وإذا الرَّدُّ ليسَ كما أرادَ !! وإنما هو كلامٌ فوق كلامِ البشرِ !! فلمَّا قرأ ذلك الكلامَ عَجِبَ منه وأعجِبَ به ثم أسلمَ لله ربِّ العالمينَ .
أولئك القومُ عرفوا قيمةَ هذا القرآنِ الكريمِ ولذلك لم يحاولوا مجرَّد محاولةٍ على أنْ يأتوا بقرآنٍ مِثْلهِ لأنهم عرفوا ما هو هذا الكتابُ .
على كلٍّ تمثَّلتِ الطُّعونُ في كتابِ الله تبارك و تعالى في ثلاثةِ أمورٍ:
*-الطَّعن في القرآنِ الكريمِ مِنْ حيثُ القراءات .
يعني كيفَ يكونُ للقرآنِ الكريمِ أكثر مِنْ قراءةٍ ؟؟؟
وهذا مِنْ تيسيرِ الله تباركَ وتعالى ، ولذلكَ قالَ أهلُ العِلْمِ في هذه القراءاتِ : إنَّ هذه القراءاتِ ممكنٌ أنْ تقسمَ إلى قسمينِ :
القسم الأوَّل : هي ما اختلفتْ لفظاً واتَّفقتْ معنىً ، المعنى واحد وإنْ كانَ اللَّفظُ يختلفُ ، مِثْل قولِنا :
" اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) " أو " اهدِنَا الزراطَ المُستَقِيمَ (6)" بالزَّاي مشمومة سيناً ، فهذه قراءةٌ لأنَّ العربَ بعضهم كانوا يسمِّي الطَّريقَ سِرَاطاً و بعضُهم يسمِّيه زراطاً بالزَّاي ولكنها مشمومة سيناً .
فهذهِ تؤدِّي إلى معاني في كتابِ الله تباركَ وتعالى زائدة ، لكنْ هذا لا يطعنُ في كتابِ الله تباركَ وتعالى لأنه أنزِلَ كذلك للتَّسهيلِ على النَّاسِ .
فَمِنْ حيثُ اختلافِ القراءاتِ إمَّا أنْ يكونَ الاختلافُ في اللَّفظِ دونَ المعنى كـ ( الصِّرَاط والزراط ) فيكونُ الاختلافُ في اللَّفظِ دونَ المعنى وذلك لمراعاةِ ألسنةِ العربِ في ذلك الزَّمانِ .
ألسنةُ العربِ مختلفةٌ في ذلك الزَّمانِ فلذلك تسهيلاً عليهم جاءتِ القراءةُ هكذا ، وجاءتِ القراءةُ هكذا مِثْل (حَسِبَ وحَسَبَ ) ، بعضُهم يقولُ (حَسِب) وبعضُهم يقولُ (حَسَب ) ، فجاءتْ قراءتانِ (حَسِبَ وحَسَبَ) ، وهكذا الصِّراط والزراط .
* وإمَّا أنْ تكونَ للإتيانِ بمعنىً جديدٍ مِثْل قول الله تباركَ وتعالى : " وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125) " سورة البقرة ، و " وَاتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى" ، أو قول الله تباركَ وتعالى في كتابهِ العزيزِ عن قِصَّةِ يوسفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع إخوتهِ ، وذلك لما اتهموا يوسفَ صلواتُ الله وسلامُه عليه بالسَّرقةِ ، وأنه كما قالوا ليوسفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : " قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ...(77) " سورة يوسف ، وجاءتْ " فقد سُرَق أخٌ له مِنْ قبلُ " يعني أنَّ أخاه سُرِقَ .
فالقصدُ أنَّ هذه القراءاتِ إذا جاءتْ إمَّا أنْ تكونَ لمعنىً جديدٍ ، وإمَّا أنْ تكونَ هذه القراءاتُ لمراعاةِ ألسنةِ العربِ ، هذا كلّه كما قالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنَّ هذا القرآنَ أنزِلَ على سبعةِ أحرفٍ كلّها كافٍ شافٍ " .
* وإمَّا أنْ يكونَ الطَّعنُ في القرآنِ الكريمِ عن طريقةِ جمعهِ ، وكيفَ جمعَه أصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ؟؟؟
وأنه يمكنُ أنه سقطَ عنهم بعض الآيات أو وضعوها في غيرِ محلِّها وهذا أيضاً باطلٌ ، وذلك أنَّ الصَّحابةَ رضيَ الله عنهم اعتنَوا عنايةً شديدةً بجمعِ القرآنِ الكريمِ ، حتى إنَّ زيدَ بنَ ثابت لما كُلِّفَ بجمعِ القرآنِ الكريمِ ماذا قالَ ؟
قالَ : والله لو كُلِّفْتُ بنقلِ جبلٍ مِنْ مكانٍ إلى مكانٍ كانَ أهون عليَّ مِنْ جمعِ القرآنِ الكريمِ .
* وكذا طعنوا في كتابِ الله تباركَ وتعالى مِنْ حيثُ النَّاسخ والمنسوخ في كتابِ الله تباركَ وتعالى ،
وعلى كلٍّ هذه القضايا ، قضيَّة القراءات أو قضيَّة النَّاسخ والمنسوخ أو قضيَّة جمع القرآن لا شكَّ أنَّ كلَّ واحدةٍ مِنْ هذه تحتاجُ إلى محاضرةٍ وحدَها ، ولكنْ أردتُ أنْ أبيِّنَ أنَّ الطَّعنَ في كتابِ الله تباركَ وتعالى إمَّا أنْ يكونَ متوجِّهاً إلى القراءاتِ ، وإمَّا أنْ يكونَ متوجِّهاً إلى النَّاسخ والمنسوخ ، وإمَّا أنْ يكونَ متوجِّهاً إلى طريقةِ الصَّحابةِ في جمعِ القرآنِ الكريمِ .
* ثم كذلك حاولوا الطَّعنَ في سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكذلك الطَّعن في سنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في طريقةِ جمعِها ، أي جمعِ سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ في تأخُّر كتابتها كما زعموا وغير ذلك ، فأمَّا طريقةُ جمعِ السُّنةِ فإنها جُمِعَتْ جمعاً عجيباً ، وقد هيَّأ الله تباركَ وتعالى لذلك أناساً كما هيَّأ لجمعِ القرآنِ أناساً ، وسنتكلَّم عن هذا في آخرِ المحاضرةِ وهو كيف أنَّ الله هيَّأ سبحانه وتعالى للقرآنِ وللسُّنةِ وللشَّريعةِ قوماً حفظوا لنا هذا الدِّينَ العظيمَ ، فطعنوا في سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ حيثُ جمعها ،كيف جُمِعَتْ هذه السُّنةُ ؟
فنقولُ هذه السُّنةُ ، أي سنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جُمِعَتْ بطريقةٍ عجيبةٍ جدّاً ، وذلك أنَّ الرَّجلَ كانَ يسافرُ اللَّيالي والأيامَ على قدميهِ أو على حمارٍ أو على بغلٍ لأجلِ حديثٍ واحدٍ ، تثبُّتاً في سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، حتى لا يُتقوَّل على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم يقلْه ، ولأهلِ العِلْمِ في ذلك حكاياتٌ وحكاياتٌ يطولُ المقامُ في ذِكْرِها .
*- مِنْ ذلك ومِنْ أشهرِها رحلة شعبةَ بنِ الحجَّاج رحمه الله تباركَ وتعالى ، حيثُ رحلَ مِنَ البصرةِ إلى مكَّةَ ، ثم إلى المدينةِ ، ثم إلى الكوفةِ ، ثم رجعَ إلى البصرةِ ؛ في سبيلِ البحثِ عنْ حديثٍ واحدٍ فقط .
*- وكذا صنعَ ابنُ سيرين ، وكذا صنعَ قبله جابرُ بنُ عبدِ الله الصَّحابيّ رضيَ الله عنه ، كلّهم صنعوا ذلك في سبيلِ حِفْظِ سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
ثم دُوِّنتِ الكتبُ وجُمِعَتْ سنَّةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما قامَ بذلك جهابذةُ أهلِ العِلْمِ مِنْ أمثالِ الإمام مالك ، والإمام الشَّافعيّ ، والإمام أحمد ، والإمام البخاريّ ، ومسلم ، وأبي داود ، والتِّرمذيّ ، والنّسائيّ ، وابن ماجه ، و الدَّار قطني ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان ، والحاكم ، والبيهقيّ ، وغيرهم كثير مِنْ أهلِ العِلْمِ ممنْ قاموا بجمعِ هذه السُّنةِ النَّبويَّةِ المشرَّفةِ .
يرحلُ الواحدُ منهم خمسَ عشرةَ سنةً ، يتغرَّب عن أهلهِ في سبيلِ جمعِ سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، مع الحاجةِ ونقصِ المواردِ وصعوبةِ السَّفرِ ، كلُّ هذا في سبيلِ ماذا ؟؟
في سبيلِ جمعِ سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
*- كانَ يقولُ ابنُ أبي حاتم رحمه الله تباركَ وتعالى عن أبيه وعمِّه أبي زُرْعَة ، أبو حاتم وأبو زُرْعَة سافرا في البحثِ عنْ سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحضور دروس المشايخ ونقلِ سنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى إنهم كانوا يحضرون الدُّروسَ مِنَ النَّهارِ إلى المغربِ ، ثم يرجعونَ البيت مِنَ المغربِ إلى قريبِ الفجرِ وهم يكتبونَ .. يدوِّنون الذي درسوه ، ثم ينامون قليلاً ويستيقظونَ الفجرَ و يذهبون إلى المشايخ وينقلون الدُّروسَ عنهم حتى المغرب ، ويرجعونَ بعد ذلك إلى اللَّيلِ ، وهكذا ...
[center] [size=21]في يومٍ مِنَ الأيام ذهبوا إلى درسِ أحدِ المشايخ في أوَّلِ العصرِ فإذا الشَّيخُ قد غابَ ، مريض أو مسافر ، المهم لم يحضرِ الشَّيخُ ، فقالوا فرصة نأكلُ شيئاً ، فذهبوا إلى السُّوقِ واشترَوا سمكةً ليأكلوها ، فلمَّا رجعوا إلى البيتِ أرادوا طبخَ السَّمكةِ وإذا جاءَهم جاءٍ فقالَ : لقد فاتكم الشَّيخ فلان ، والآن عنده درسٌ .
يقول : فتركنا السَّمكةَ وذهبنا إلى الدَّرسِ ، وعادتِ الدَّوريَّةُ كما كانتْ مِنَ الصَّباحِ إلى اللَّيلِ ، وهكذا حتى مرَّتْ على السَّمكةِ ثلاثةُ أيامٍ ، فأكلوها نيِّئةً خشيةَ أنْ تفسدَ !!
ما عندهم وقتٌ يطبخون هذه السَّمكة ، وليسوا فرادى عن قومهم في هذا الأمرِ بل كلُّ القومِ في ذلك الزَّمانِ كانوا على هذه الشَّاكلةِ ، حتى حفظَ الله تباركَ وتعالى هذه السُّنةَ .. سبحانه وتعالى .
أمَّا كيف جُمِعَتْ بعد أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ؟
على طريقتينِ كما قالَ أهلُ العِلْمِ ، هناك جمعٌ رسميٌّ لسنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهناك جمعٌ غير رسميٍّ :
* أمَّا الجمعُ غير الرَّسميّ ، كتابة السُّنة غير الرَّسميَّةِ فهذه بدأتْ في زمنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ،
* كانَ عبدُ الله بنُ عمرو بنِ العاص يكتبُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما قالَ أبو هريرةَ : " ما مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر حديثاً مني إلا ما كانَ مِنْ عبدِ الله بنِ عمرو بنِ العاص فإنه كانَ يكتبُ ولا أكتبُ " .
* ولما جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقد حذَّره بعضُ كبراءِ قريش قالوا : أنتَ تكتبُ عن رسولِ الله كلَّ شيءٍ في الغضبِ والرِّضا فقد لا يُرضيهِ ذلك ، فاستشرِ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم . فذهبَ عبدُ الله بنُ عمرو بنِ العاص واستشارَ النَّبيَّ ، فقالَ له : يا رسولَ الله إني أكتبُ عنك في الرِّضا والغضبِ فهل أكتبُ ؟ ، قالَ : " اكتب ، والله ما يخرجُ مِنْ هذا إلا حقٌّ " .
فأمرَه أنْ يكتبَ صلواتُ الله وسلامُه عليه .
* وكذلك لما جاءَ أبو شاه بعد أنْ حدَّث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، قالَ : اكتبوا : " لأبي شاه " .
وكانَ يكتبُ أيضاً غيرهم مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهذه كتابةٌ غيرُ رسميَّةٍ .
* وجاءَ بعدَهم كذلك مِنْ كَتَبَ ، حتى جاءَ عهدُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز في سنةِ مئةٍ واثنين مِنَ الهجرةِ ، أرادَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز أنْ يجمعَ السُّنةَ كما جُمِعَ القرآنُ الكريمُ خشيةَ موتِ باقي أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، حيثُ ما بقيَ مِنْ أصحابِ النَّبيِّ إلا قِلَّة ، فأمرَ الزُّهريَّ وأبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابن جريج وغيرهم مِنْ أمثالهم أنْ يجمعوا سنَّةَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقامَ أولئك القومُ بجمعِ سنَّةِ النَّبيِّ صلواتُ الله وسلامُه عليه ، فبدأ هذا الجمعُ الرَّسميُّ لسنَّةِ النَّبيِّ صلواتُ الله وسلامُه عليه .
* ثم يأتي طعنٌ آخرُ كما قلنا بعد كتابِ الله تعالى ، بعد سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، الطَّعن في أصحابِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ، في نقلَةِ هذا الدِّينِ ،
حتى إنه إذا سقطتِ الثِّقةُ بنقلَةِ هذا الدِّينِ لم تكنْ هناك ثقةٌ بذلك الدِّينِ أصلاً ، ولذلك قالَ أبو زُرْعَةَ الرَّازيّ : "إذا رأيتَ الرَّجلَ يطعنُ في أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاعلمْ أنه زنديقٌ ، وذلك أنَّ القرآنَ عندنا حقٌّ ، والسُّنةَ عندنا حقٌّ ، وإنما نقلَ إلينا القرآنَ والسُّنةَ أصحابُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهؤلاء ( أي الطَّاعنين في أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ) يريدونَ أنْ يُبطلوا شهادةَ شهودِنا ليُبطِلوا دينَنا "
لأنه إذا بطلتْ شهادةُ الشُّهودِ ، إذا أثبتنا أنَّ الشُّهودَ مبطلون بعد ذلك صارَ ما نقلوه ماذا ؟ صارَ ما نقلوه باطلاً
فقالَ:أولئكَ ( يعني الذين يطعنونَ في أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ) أرادوا أنْ يُبطلوا شهادةَ الشُّهودِ ليُبطلوا دينَنا " .
إذاً هذا هو المقصدُ ؛ الطَّعنُ في أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولذلك قالَ : "فاعلموا أنهم زنادقةٌ " .
الذين يحرصونَ على إبطالِ شهادةِ الشُّهودِ لأنهم في النِّهايةِ ، في المحصِّلةِ النِّهائيَّةِ ماذا يريدونَ ؟؟
إذ اقلنا هذا الدِّينُ نقلَه هؤلاء ، وقلنا هؤلاء غيرُ ثقاتٍ ..كَفَرة فَجَرَة !! ماذا يكونُ بعد ذلك ؟؟
يكونُ ما نقلُوه باطلاً ، لأنه ما نقلَ لنا القرآنَ إلا أصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وما نقلَ لنا السُّنَنَ إلا أصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
لا نحن رأينا النَّبيَّ ولا التَّابعونَ رَأوا ، لا البخاريّ ، ولا أحمد ، ولا مالك ، ولا التِّرمذيّ ، ولا النّسائيّ ، ولا ابن ماجه ، ولا البيهقيّ ، ولا مَنْ ذكرناهم مِنْ علماءِ الحديثِ ، ولا واحد منهم رأى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وإنما ينقلونَ هذا الدِّينَ عنْ شيوخِهم ، وشيوخُهم ينقلونَ عنْ شيوخِهم ، حتى ينقلوا عنْ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم همُ النَّقلَةُ المباشرون عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم سواء نقلوا السُّنةَ أو نقلوا القرآنَ ، فالطَّعنُ في هؤلاء طعنٌ في الدِّينِ لأنه إبطالٌ للشَّيءِ الذي نقلوه ، فهذا نوعٌ ثالثٌ .
* ويأتي النَّوعُ الرَّابعُ مِنَ الطَّعنِ وهو الطَّعنُ في شريعةِ الرَّحمنِ ،
حيثُ إننا نجدُ مَنْ يطعنُ في هذه الشَّريعةِ الغرَّاءِ فيقولُ لا تصلحُ لهذا الزَّمانِ .. لا تصلحُ لهذا المكانِ .. لا تصلحُ لهذه القضيَّةِ ، وإذا قالَ الله تباركَ وتعالى : " .... وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ... (50) " سورة المائدة ، سبحانه وتعالى ، لا أحدَ أحسنُ مِنَ الله حكماً ، هؤلاء يريدون أنْ يطعنوا في الشَّريعةِ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ ، هم لا يريدون أنْ يقولوا شريعة الرَّحمنِ باطلة ، ولكنْ بطريقةٍ ملتويةٍ قالوا : الآن تطوَّرتِ الأمورُ ، وتغيَّرتِ الطُّرُقُ ، وتغيَّرتْ حاجيَّاتُ النَّاسِ ، فلذلك قد لا تصلحُ الشَّريعةُ لهذا الوقتِ ، أو قد لا تصلحُ في هذه القضيَّةِ ، أو لا تصلحُ لهذا المكانِ ، أو لا تنسجمُ مع هذا الوضعِ ، وهكذا .. ، وهذا أيضاً مِنْ بابِ الطَّعنِ في دينِ الله تباركَ وتعالى .
*ويأتي طعنٌ خامسٌ وهو الطَّعنُ في أتباعِ هذا الدِّينِ ، في المتمسِّكينَ بدينِ الله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ،
فيأتي الاستهزاءُ بالملتزمينَ بدينِ الله تباركَ وتعالى؛ إمَّا بأشخاصهم وإمَّا بما التزموه ، إمَّا بشخصهِ يعني صارتْ نكتٌ وطرائفُ يُطلقونها على المتديِّنين ، ( لا تأخذ مره بعد مطوع ، وغيرها مِنَ الأمورِ ، ولا تاخذ سيارة بعد مطوع ، ولا تسوي كذا ) ، قضيَّة هؤلاء الاستهزاء والسُّخرية مِنَ الأشخاصِ ، ثم بعد ذلك ينتقلُ للسُّخريةِ والاستهزاءِ مما يحملُه هؤلاء الأشخاصُ مِنَ الثَّوب أو مِنَ اللِّحية أو مِنَ الالتزامِ بالسُّترة أو مِنَ الالتزام بسنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهكذا .. ، فالقصدُ أننا نجدُ أنَّ هذا كذلك طعنٌ في دينِ الله تباركَ وتعالى .
فمجملُ الطُّعونِ إذاً إمَّا أنْ تكونَ في كتابِ الله تباركَ وتعالى ، أو في سنَّة ، أو في أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، أو في الشَّريعةِ ، أو في أتباعِ هذه الشَّريعةِ المتمسِّكين بها ، ومع هذا كلِّه نجدُ أنَّ الدِّينَ قائمٌ ، ونجدُ أنَّ الدِّينَ عزيزٌ ، ونجدُ أنه ظاهرٌ ولله الحمدُ والمِنَّة ، بمَ ؟؟
بجماعةٍ مِنَ الغرباءِ ، بجماعةٍ مِنَ النَّاسِ .. هيَّأهمُ الله واختارَهم سبحانه وتعالى لحفظِ هذا الدِّينِ ، وإلا كما قلنا ابتداءً إنَّ الله ليسَ بعاجزٍ عنْ أنْ يحفظَ هذا الدِّينَ ، ولكنَّ الله هيَّأ أناساً لحفظِ هذا الدِّينِ ، فالزَّمن الأوَّل في القرآنِ هيَّأ جماعةً مِنَ الصَّحابةِ حفظوا هذا القرآنَ الكريمَ ، ونقلوه إلى مَنْ جاءَ بعدَهم ،
ولذلك قالَ أهلُ العِلْمِ : " نقلَةُ القرآن ( كقراءات كما هو موجود حالياً )
نقلةُ القرآنِ مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عشرةٌ : " عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وأبو موسى ، وأبيّ ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبو الدَّرداء ، وعبد الله بن عبَّاس وأبو هريرة "
هؤلاء يقالُ لهم نقَلَة القرآن الكريم أو رواة القرآنِ الكريمِ عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، رواه غيرهم كأبي بكر ، كعائشة ، كمعاذ بن جبل ، وغيرهم مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولكنْ هؤلاء الذين انتقلتِ الرِّوايةُ عنهم إلى يومِنا هذا ، هؤلاء العشرة مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ثم بعد ذلك بدأ النَّاسُ يتناقلونَ هذا القرآنَ حتى بزَّ النَّاسَ في زَمَنِهم وتميَّزوا عن غيرِهم ، وهم مَنْ يُسَمُّون بالقرَّاء السَّبعة ، القرَّاء السَّبعة للقرآنِ الكريمِ : " عبد الله بن عامر ، عاصم بن أبي النَّجُود الكوفي ، وأبي عمرو بن العلاء ، و ابن كثير ( عبد الله بن كثير ) ، الكسائي الكوفي ، وحمزة الزَّيات ، ونافع المدني " فهؤلاء السَّبعةُ يقالُ لهم القرَّاء السَّبعة .. اشتُهروا بذلك ، ثم جاءَ بعدهم ثلاثةٌ : " يزيد بن قعقاع أبو جعفر ، يعقوب البصري ، وخلف " فهؤلاء قاموا بجمعِ قراءاتِ القرآنِ الكريمِ وجمعوها ، فكانوا كالغرباءِ في زمانهم حيثُ تميَّزوا بالعنايةِ الفائقةِ بكتابِ الله تباركَ وتعالى .
وهكذا سنَّةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حفظَها سبعةٌ مِنَ الصَّحابةِ ، هؤلاء أكثر مَنْ روى السُّنةَ عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهم " أبو هريرة ، وثلاثة آخرون مِنَ المهاجرين ، وثلاثة مِنَ الأنصار ، أمَّا المهاجرون فأبو هريرةَ وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العبَّاس ، وأمَّا الأنصارُ فثلاثةٌ أنس وجابر وأبو سعيد الخدري " ، هؤلاء حَفظُوا خمساً وستِّين بالمئة مِنْ سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، هؤلاء السَّبعة فقط ، لذلك يُسَمُّونهم رواة الأحاديث بالألوف ، يعني كلّهم تجاوزَ الألفَ حديثٍ .
وثم جاءَ بعدَهم مَنْ هو أقلّ مِنْ ذلك عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر بن العاص ، وأبي بكر الصِّدِّيق ، وعليّ بن أبي طالب ، وعمر بن الخطَّاب ، هؤلاء أيضاً رَوَوا عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحاديثَ كثيرةً لكنْ لم يبلغْ أحدٌ منهمُ الألفَ .
فالشَّاهدُ أنَّ الله تباركَ وتعالى حَفِظَ السُّنةَ بهؤلاءِ ، ثم جاءَ بعدَهم مَنْ حَفِظَ ، حتى جاءَ صاحبا الصَّحيحينِ البخاري ومسلم فجمعا الصَّحيحَ فقط ، وجمعَ غيرُهم الصَّحيحَ والضَّعيفَ ، ولكنْ في الجملةِ لا تجدُ حديثاً واحداً غابَ عنْ هذه الأمَّةِ ؛ ولا آيةً واحدةً بل ولا حرف ، مصداقُ ذلك قولُ الله تعالى : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) " سورة الحجر ، فَنَمْ قريرَ العينِ واطمئنَّ ، ولكن السَّعادة كلّ السَّعادةِ أنْ تكونَ مِنْ ضِمْنِ هؤلاء الذين يحفظُ الله بهمُ الدِّينَ ، الآن القرآن الكريم حُفِظَ و تمَّ ، بقيتِ السُّنةُ النَّبويَّةُ ؛ ما زالَ أهلُ العِلْمِ يمارسونَ البحثَ في سنَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ حيثُ جمع الطُّرُق والنَّظَر في صِحَّةِ الأحاديثِ وضَعْفِها وهكذا ... ، لأنَّ القرآنَ ما فيه صحيحٌ وضعيفٌ !! كلُّه صحيحٌ ، أمَّا السُّنةُ ففيها الصَّحيحُ والضَّعيفُ .. هناك مَنْ حاولَ أنْ يدسَّ في هذه السُّنةِ ، ولكنَّ الله حافظٌ هذا الدَّين ، كما قالَ هارونُ الرَّشيد الخليفة العبَّاسيّ المعروف لما أمرَ بقتلِ رجلٍ على الزَّندقةِ .
فقالَ هذا الرَّجلُ لهارون الرَّشيد : وما تفعلُ بألفي حديثٍ وضعتُها على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟؟!!
يقولُ وضعتُ ألفي حديثٍ !! بأسانيدَ .. يضعُ أسانيدَ .. يؤلِّف أسانيدَ ويأتي بمتنٍ مِنْ عندهِ .. وهكذا تأليف ..
فماذا قالَ هارونُ الرَّشيد ؟
قالَ :عندي عبدُ الله بنُ المبارك وأبو اسحق الفزاريّ يَنخِلانها نخلاً .
ولذلك يقولُ سفيان الثَّوريّ :لو كذبَ رجلٌ في المغربِ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصبحَ في المشرقِ مفضوحاً