ولا
بد في هذا المقام من الاستشهاد بقول المفكر العظيم الشهيد سيد قطب في
تعليقه على سورة النساء وما فيها من أحكام تشريعية كنظام الإرث وذلك في
تفسيره القيم (في ظلال القرآن) إذ يقول رحمه الله: "إن الإسلام نظام
للإنسان. نظام واقعي إيجابي. يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه ويتوافق مع
واقعه وضروراته, ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى
الأزمان, وشتى الأحوال. إنه نظام واقعي إيجابي, يلتقط الإنسان من واقعه
الذي هو فيه, ومن موقفه الذي هو عليه, ليرتفع به في المرتقى الصاعد, إلى
القمة السامقة. في غير إنكار لفطرته أو تنكر; وفي غير إغفال لواقعه أو
إهمال; وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف ! إنه نظام لا يقوم على الحذلقة
الجوفاء; ولا على التظرف المائع; ولا على "المثالية " الفارغة; ولا على
الأمنيات الحالمة, التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته, ثم
تتبخر في الهواء!" ويقول رحمة الله عليه معلقا على نظام الإرث في الإسلام
"إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء;
ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال. يبدو هذا واضحا حين
نوازنه بأي نظام آخر, عرفته البشرية في جاهليتها القديمة, أو جاهليتها
الحديثة, في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق. إنه نظام يراعي معنى
التكافل العائلي كاملا, ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في
هذا التكافل . فعصبة الميت هم أولى من يرثه - بعد أصحاب الفروض كالوالد
والوالدة - لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به, ومن يؤدي عنه في الديات
والمغارم فهو نظام متناسق, ومتكامل.
وهو
نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة. فلا يحرم امرأة ولا
صغيرا لمجرد أنه امرأة أو صغير. لأنه مع رعايته للمصالح العملية - كما بينا
في الفقرة الأولى - يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة. فلا يميز
جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي. وهو نظام
يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة , وفطرة الإنسان بصفة خاصة .
فيقدم
الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة . لأن الجيل الناشىء هو
أداة الامتداد وحفظ النوع . فهو أولى بالرعاية - من وجهة نظر الفطرة الحية -
ومع هذا فلم يحرم الأصول , ولم يحرم بقية القرابات . بل جعل لكل نصيبه .
مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل . وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في
تلبية رغبة الكائن الحي - وبخاصة الإنسان - في أن لا تنقطع صلته بنسله, وأن
يمتد في هذا النسل. ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة, ويطمئن
الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله, إلى أن نسله لن يحرم من
ثمرة هذا العمل, وأن جهده سيرثه أهله من بعده. مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد,
ومما يضمن للأمة النفع والفائدة - في مجموعها - من هذا الجهد المضاعف . مع
عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام
وأخيرا فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة, على رأس كل جيل, وإعادة
توزيعها من جديد. فلا يدع مجالا لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة -
كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر, أو تحصره في طبقات
قليلة - وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم
الاقتصادي في الجماعة, ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من السلطات . هذا
التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص
والشح. فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد ; فيتم والنفس به راضية,
لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها ! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله
لهذه النفس وتشريع الناس !!! ".